Admin Admin
عدد المساهمات : 415 تاريخ التسجيل : 08/08/2009 العمر : 53
| موضوع: الحقوق.. من أين تبدأ؟ الإثنين مايو 17, 2010 10:52 pm | |
| الحقوق.. من أين تبدأ؟
تنحو البشريةُ اليومَ بشكلٍ حثيثٍ نحو التركيز على إرساء القوانين التي تحمي حقوق الإنسان كأساسٍ للتعامل بين بني البشر، مسألة حقوق هذه تلخص قصة ظلم الإنسان لأخيه الإنسان على هذه الأرض، الأمر الذي جاءت شرائع السماء لحسمه وتثبيت حقوق الناس سواء الطبيعية منها أو المكتسبة، كل الناس بغض النظر عن انتماءاتهم وعقائدهم وأجناسهم (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)(الحديد: الآية25)، جاءت هذه الشرائع لصياغة الإنسان الذي يراعي الحق ويلتزم به لا بالمعنى الشرعي فحسب وإنما بالمعنى الموضوعي الذي يضع حدا لظلم الإنسان نفسه أو غيره، لأنّ كل ظلم يوقعه الإنسان على غيره فهو في ذات الوقت ظلم لنفسه.
إنّ معركة الحقوق هذه مهما طال أمدُها وعظُمت تضحياتها وجلّت، فإنها تستحق كل ذلك العناء لأنها معركة الإنسان الحقيقية، ولكننا وفي خضم انشغالنا بالعمل لاستحصال هذه الحقوق نغفل جانباً مهماً من بنيتها التحتية التي لا تنحصر في الإلمام بثقافة الحقوق ومعرفة تفاصيلها فحسب، وإنما تمتد إلى أغوار النفس الإنسانية لاستصلاح ما فسد من جذور إيمانية وثقافية تتعلق بحقوق الآخرين، فالحق ليس إلا الوجه الآخر للواجب.
عادة ما يتم التركيز في المطالبة بالحقوق على تلك التي تكون مستلبةً من قبل الآخرين، فتهبّ الهيئات والجمعيات التي تنادي وتطالب بتلك الحقوق، وهذا عمل إنساني نبيل ورائع؛ القيام بالدفاع عن حقوق الآخرين وبصوت مسموع وتقديم بعض التضحيات في سبيل ذلك مما يقضّ مضاجع منتهكي الحقوق ويربك استقرارهم فيضطروا مكرهين لإرجاعها أو ربما –في الدول التي تسمح قوانينها- تقديمهم للمحاكمة على ما ارتكبوه لينالوا جزاء أعمالهم ويكونوا عبرة لغيرهم.
ولكن ماذا عن الحقوق التي تكون مضيّعةً من قبل الإنسان نفسه، أعني أنّ الإنسان نفسه أهدرها طواعية أو تخلى عنها استكانة؟! فحق التعليم مثلا له جانبان، الأول يخص الدولة أو الجهة المناط بها مسؤولية توفير البيئة التعليمية من سن القوانين التي تكفل هذا الحق لأفراد المجتمع بل تلزمهم به في سن معين حتى لا يعم الجهل والأمية، أما الجانب الآخر فيتعلق بالفرد نفسه الذي ينبغي له أن يؤمن بأنّ من حقه أن يتعلم وأن ينهل من المعارف والعلوم ما يطوّر به نفسه، وأن لا يفرط في هذا الحق نتيجة تردد أو خوف أو كسل أو انعدام ثقة أو غيرها من علل نفسية قد تصيب المرء فتقعده عن طلب العلم والمعرفة.
فكما أنّ لبدنك عليك حقاً –كما ورد في الحديث- بأنْ تريحه من التعب وتحفظه من الآفات والأمراض وتتخير له طيب الطعام والشراب، فإنّ لعقلك أيضا عليك حقا أن تحرّره من أغلال التفكير وأن تغذيه بما ينفعه من المعارف والعلوم، ولنفسك أيضا عليك حق أن تتسامى وتتكامل فتنتفض وتثور على الكسل والدعة وطلب الراحة والمتع الزائلة، وليس لأحد أن يمنعك من ذلك.
فالوجه الآخر للحق هو الواجب كما ذكرت آنفا، فـ (طلب العلم فريضة) و (اطلبوا العلم ولو في الصين) و (اطلب العلم من المهد إلى اللحد)، ولهذا يصح القول: (ما ضاع حق وراءه مُطالب)، ولعل هذه البنية الثقافية التحتية هي ما تُؤسس لحركة المطالبة بالحقوق وعدم السكوت على ضياعها من باب الاستسلام للظروف أو الأمر الواقع، خصوصا حينما تكون تلك الحقوق من متعلقات كمال النفس البشرية كالمعرفة والحرية والكرامة التي تدخل في بنية الذات والتي ينبغي العمل على اكتسابها وإنْ عاكستها الظروف الخارجية، فالحر في ذاته لا يقبل التعايش مع الواقع الذي يصادر حريات الآخرين، بل ربما ضحى بحريته الظاهرية ليعيش حريته الذاتية الحقيقية، فمعركة الحقوق تبدأ حقيقةً مع النفس أولاً (ميدانكم الأول أنفسكم فإن قدرتم عليها كنتم على غيرها أقدر) كما قال الإمام علي(ع)، فهو الجهاد الأكبر الذي يعقبه كمحصلة العمل من أجل استرجاع كل حق سليب.
وبهذا تنحل إشكالية (فاقد الشيء لا يعطيه)، فإذا كان المطالب بالحق هو نفسه منتهكاً لحق الآخرين، فقد نقض غزله بيده وفقد مصداقيته، وصار حاله كحال من يقرأ القرآن والقرآن يلعنه، فهل يُرجى خيرُه؟ ترى البعض يرفع عقيرته دفاعاً عن حقوق الناس في الملأ والمنتديات والصحف، وهو في بيته أو عمله جبّار على مَنْ تحته، يسومهم سوء المعاملة، فكم هي انتهاكات الحقوق التي تجري خلف أسوار البيوت بعيدا عن الرصد والتعقّب؟
صحيح أن انتهاك الحكومات للحقوق لا يفوقه أي انتهاك آخر، وهو لا يخفى على المراقبين الحقوقيين، لأنّ أغلب تلك الممارسات واضحة للعيان، وواقعة تحت الرصد كما أنها متوقعة من طرف قوي يريد الاستئثار بالموارد، ويخشى الانتقاص من سلطته وهيبته، ولكن هناك الكثير من الممارسات في المجتمع تشي بلامبالاتنا بالحقوق بل وجهلنا بها نتيجة احتشاء عقولنا بمفاهيم مغلوطة تقلب الباطل حقاً، مثل النظرة الدونية للمرأة وخلقها من ضلع أعوج، وضرب الزوجة، وعضل الأب ابنته من زواج الكفؤ، وإهدار كرامة العاملات في البيوت، وممارسات الإقصاء مع المختلف وعدم احترامه وازدرائه وتشويهه وقذفه، كل هذه الأفعال لا تُصنّف على أنها اعتداء على الآخر بل ربما تُبرّر على أنها من الشرع! ما يجعل دين الله العظيم في مواجهةٍ مع الحقوق الإنسانية التي كفلها هو لجميع البشر، فيا لسخرية القدر!
الشيخ عباس النجار
جمعية التجديد الثقافية - ممكلة البحرين | |
|